الرحمة للعالمين
قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} الأنبياء: ١٠٧
” قول الحقّ جلّ جلاله: {وما أرسلناك} يا محمد {إِلا رحمةً للعالمين} أي: ما أرسلناك بما ذكر من الشرائع والأحكام، وغير ذلك؛ مما هو مناط سعادة الدارين؛ لعلة من العلل؛ إلا لرحمتنا الواسعة للعالمين قاطبة. أو ما أرسلناك في حال من الأحوال، إلا حال كونك رحمة لهم، فإن ما بُعثتَ به سببٌ لسعادة الدارين، ومنشأ لانتظام مصالحهم في النشأتين، ومن لم يضرب له في هذه المغانم بسهم فإنما أُوتي من قِبل نفسه، حيث فرط في اتّباعه، وقيل: إنه رحمة حتى في حق الكفار في الدنيا؛ بتأخير عذاب الاستئصال، والأمن من المسخ والخسف والغرق، حسبما نطق به قوله تعالى: “وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ” الأنفَال: 33
ففي هذه الرحمة وجهان: الأول: أنها رحمة للمؤمنين فقط، وأما الأمم النائية عنه ﷺ فإن الله سبحانه رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض، فأصاب كل العالمين النفع برسالته.
الوجه الثاني: أنها رحمة لكل أحد، لكن المؤمنين قبلوا هذه الرحمة فانتفعوا بها دنيا وأخرى، والكفار ردوها فلم يخرج بذلك عن أن يكون رحمة لهم، لكنهم لم يقبلوها، كما يقال: هذا دواء لهذا المرض، فإذا لم يستعمله لم يخرج عن أن يكون دواء لهذا المرض.
قال الرازي: إنه ﷺ كان رحمة في الدين والدنيا، أما في الدين فلأنه بعث والناس في جاهلية وضلالة، وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم لطول مكثهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم، فبعث الله تعالى محمدًا ﷺ حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب، فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الثواب، وشرع لهم الأحكام وميز الحلال من الحرام.
ثم إنما ينتفع بهذه الرحمة من كانت همته طلب الحق، فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار، وكان التوفيق قريناً له، قال الله تعالى: “قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى” فصلت:٤٤، وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من كثير من الذل والقتال والحروب، ونصروا ببركة دينه ﷺ.
مظاهر رحمة النبي بالخلائق أجمعين:
رحمته بالضعفاء: كان النبيّ ﷺ يهتمّ بشأنهم، ويأمُر بحُسن مُعاملتهم؛ لأنّهم مظنّة وقوع الظُلم عليهم، وأوصى بهم وبأداء حُقوقهم، فقال ﷺ وهو يوصي الناس بالخدَم الذين يعملون عندهم: (إنَّ إخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أيْدِيكُمْ، فمَن كانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ ممَّا يَأْكُلُ، ولْيُلْبِسْهُ ممَّا يَلْبَسُ، ولَا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ، فإنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ فأعِينُوهُمْ)، رواه الكمال بن همام، في شرح فتح القدير، عن أبي ذر الغفاري، ح صحيح.
رحمته باليتامى والأرامل: فقد حثّ على كفالتهم، وعدّ ذلك كأجر الجهاد في سبيل الله
رحمته بالنساء: كان ﷺ أرأف الناس بأهله وأزواجه وبناته، فكان عندما تأتي فاطمة -رضي الله عنها- إليه يقبّلها ويُجلسها في مكانه، وكان إذا أرادت أمّ المؤمنين صفية -رضي الله عنها- أن تركب على البعير؛ يجلس فيرفع لها ركبته لتصعد عليها وتركب البعير.
وقد أكثر من الوصيّة بالنساء والبنات، فقال ﷺ: (أَلَا واسْتَوْصُوا بالنساءِ خيرًا، فإنما هُنَّ عَوَانٌ عندَكم، ليس تَمْلِكُونَ منهن شيئًا غيرَ ذلك إِلَّا أن يَأْتِينَ بفاحشةٍ مُبَيِّنَةٍ) رواه الترمذي، في سنن الترمذي، عن عمرو بن الأحوص ح حسن صحيح.
وقال: (مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ البَنَاتِ بشيءٍ، فأحْسَنَ إلَيْهِنَّ كُنَّ له سِتْرًا مِنَ النَّارِ)
رحمته بخدمه: فكان يُعاملهم بالكرم والأخلاق، ويُعلّمهم ويُرشدهم، ويبتعد عن توبيخهم فيما يقع منهم من الأخطاء، فقد جاء عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أحد خدمه ﷺ قال: (خَدَمْتُ النبيَّ ﷺ عَشْرَ سِنِينَ، فَما قالَ لِي: أُفٍّ، ولَا: لِمَ صَنَعْتَ؟ ولَا: ألَّا صَنَعْتَ). رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أنس بن مالك، صحيح.
كما كان يُعامل خدمه الصغار بالحلم والرحمة، وكان يمازحهم ويعطف عليهم، والأحاديث الشاهدة على ذلك كثيرة، خاصة عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، إذ كان يخدم النبيّ منذ صغره.
رحمته بالمرضى: فكان يأمر بزيارتهم، والشفقة عليهم، والعناية بهم، وإدخال الفرح على قُلوبهم، وجاءت الكثير من الأحاديث النبويّة التي تحثّ على ذلك، كقول النبي ﷺ: (مَن عادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ في خُرْفَةِ الجَنَّةِ، قيلَ يا رَسولَ اللهِ، وما خُرْفَةُ الجَنَّةِ؟ قالَ: جَناها). رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن ثوبان مولى رسول الله، ، صحيح.
رحمته بالمؤمنين وأُمّته ورعيّته: بلغ النبيّ ﷺ قمّة الرحمة في أُمّته؛ حيث دعا دعوةً وطلب تأخير إجابتها إلى يوم القيامة، وهي شفاعته لأمّته، لقول النبي: (إنه لم يكنْ نبيٌّ إلا له دعوةٌ قد تَنَجَّزها في الدنيا، وإني قد اختبأتُ دعوتي شفاعةً لأمتي) في صحيح ابن ماجة، عن أبي هريرة
وبشّر أمّته بأنهم أكثر أهل الجنة.
رحمته بالجُهال:
ومن عظيم رحمته وأخلاقه في التعامل مع من أخطأ من أمّته؛ قصّة الرجل الذي قام بالتبوّل في المسجد أمام الناس، فقد نهى الصحابة -رضي الله عنهم- عن تغليظه ونهره، ونصحه وعلّمه وأرشده بلطفٍ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بال أعرابيٌّ في المسجد، فقام الناس إليه ليقَعوا فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعُوهُ وأريقوا على بوله سَجْلًا من ماءٍ، أو ذَنوبًا من ماءٍ، فإنما بُعثتُم ميسِّرينَ، ولم تُبعَثوا معسِّرين))؛ رواه البخاري.
بالإضافة إلى الاهتمام بالأمّة في جانب العبادات، والتيسير عليهم؛ كمُراجعته لربّه في تخفيف الصلاة عن أُمّته وجعلها خمس صلوات بدلاً من خمسين.
وكان يُعرض عن القيام ببعض العبادات أحياناً؛ مخافة أن تُفرض عليهم، كما كان يُكثر من الدعاء لأمّته بالخير والرّفق، والبُعد عن العذاب والهلاك، وقد ضحّى ﷺ في عيد الأضحى عن نفسه وعن من لم يُضحّي من أمّته؛ رحمةً بالفقراء منهم.
رحمته بجنوده: وبالشُهداء فيُعامل جُنوده كنفسه، ولا يُعاتبهم أو يُعاقبهم على أخطائهم في الحرب؛ ومن ذلك رحمته بالصحابة في غزوة أُحد، وعدم مُحاكمتهم لأخطائهم في مُخالفتهم لأوامره، أمّا رحمته بالشُّهداء فقد تمثّلت في دفنهم دون إرسالهم إلى أهلهم؛ حتى لا يتألّموا على رؤيتهم، وكان يأمر الأهل الذين يأخذون شهداءهم أن يردّوهم إلى أماكنهم؛ حتّى يُدرك الناس فضلهم، ولتخفيف المُصاب والحزن على أهاليهم.
مظاهر رحمة الرسول بغير المسلمين: تعدّت رحمة النبي -عليه الصلاة والسلام- غير المُسلمين أيضًا، فشملت الكافرين والمُشركين وغيرهم، ومن ذلك ما يأتي: رحمته بالأسرى كان ﷺ يأمر بفكّ الأسير، وبيّن أنّ الرحمة بالأسير وفكّ أسره من أسباب دُخول الجنة، وترجم ذلك عمليّاً في أسرى بدر عندما استشار الصحابة -رضي الله عنهم- في شأن الأسرى، فأخذ برأي أبي بكر -رضي الله عنه-وذلك بأخذ الفدية منهم وتركهم؛ لِما رأى في ذلك من الرحمة والرأفة بهم، وراعى حال الأسرى المادّية، فمن لم يكن معه مال؛ افتداه النبي -عليه الصلاة والسلام- بتعليم بعض الصحابة -رضي الله عنهم- القراءة والكتابة، وبعضهم من أطلق سراحه بلا فداء.
رحمته أثناء الحرب: وضع النبيّ للمُسلمين مجموعةً من القواعد والضوابط في الجهاد التي لا يجوز لأحدٍ أن يتعدّاها؛ كالنهي عن التمثيل في جسد الأعداء، والنهي عن قتل النساء، والأطفال، وكبار السن، والمرضى، وتجاوزت هذه الرحمة حتى الجماد ونهى النبي عن قتل الحيوان، أو حرق الأشجار، فقد قال -تعالى-: (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)، بالإضافة إلى وفاء النبيّ بوعوده مع أعدائه، وعدم خيانتهم أو الغدر بهم، قال -تعالى-: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ).
رحمته بالكُفّار: ومن ذلك لمّا جاءه ملك الجبال ليُطبق عليهم الجبال بعد أن ردّوه، وقاتلوه، وعذّبوه، فلم يرضَ النبيّ ذلك، وقال له ﷺ: “بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصْلابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وحْدَهُ، لا يُشْرِكُ به شيئًا”. بالإضافة إلى دُخوله مكّة بعد أن فتحها مُتواضعاً، وعفوه عمّن آذاه من المشركين، وعمّن أخرجه وصحابته من ديارهم، وعدم الدُعاء عليهم، وحرصه على دُخولهم في الإسلام، فقد جاء عنه أنّه زار جاراً يهودياً له، وطلب منه الدُخول في الإسلام؛ فأسلم، وفرح النبي ﷺ بإسلامه وإنقاذه من النار.
مظاهر رحمة الرسول بالحيوان: عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال واصفًا جملًا جاء للنبي: (فإذا جَملٌ قدِ أتاهُ فجَرجرَ، وذَرِفَت عيناهُ – قالَ بَهْزٌ، وعفَّانُ: فلمَّا رَأى النَّبيَّ ﷺ حَنَّ وذرِفَت عيناهُ – فمَسحَ رسولُ اللَّهِ ﷺ سراتَهُ وذِفراهُ، فسَكَنَ، فقال: مَن صاحبُ الجمَلِ؟ فجاءَ فتًى منَ الأَنصارِ، فقالَ: هوَ لي يا رسولَ اللَّهِ، فقالَ: أما تتَّقي اللَّهَ في هذِهِ البَهيمةِ الَّتي ملَّكَكَها اللَّهُ، إنَّهُ شَكا إليَّ أنَّكَ تجيعُهُ وتدئبُهُ)، أي: تُتْعِبه. والمقصود بـ (فَمسحَ ذِفْرَاهُ): “أي المَوضِع الَّذي يَعْرَقُ من قَفا البَعِير عند أُذُنِه”، فمسحه النبي ﷺ رأفة به، فسكت الجمل عن الحنين وأوقف الدمع” رواه أحمد بن حنبل، في مسند أحمد، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، إسناده صحيح.
وكان الصحابة مع النبي ﷺ في سفر، فانطلق لحاجة، فرأى الصحابة حمرة -وهي نوع من الطير يشبه العصفور- فقاموا بأخذ صغارها، فأتت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي ترتعش، فقال: (من فجع هذه بولدِها؟ رُدُّوا ولدَها إليها). واه النووي، في تحقيق رياض الصالحين، عن عبد الله بن مسعود، صحيح.
مظاهر رحمة الرسول بالجماد: جاء عن ابن عمر -رضي الله عنه- أنّه قال: (كانَ المَسْجِدُ مَسْقُوفًا علَى جُذُوعٍ مِن نَخْلٍ، فَكانَ النبيُّ ﷺ إذَا خَطَبَ يَقُومُ إلى جِذْعٍ منها، فَلَمَّا صُنِعَ له المِنْبَرُ وكانَ عليه، فَسَمِعْنَا لِذلكَ الجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ العِشَارِ، حتَّى جَاءَ النبيُّ ﷺ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَسَكَنَتْ). رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن جابر بن عبد الله، صحيح.
أي إن النبي ﷺ كان يخطب على جذع، فلما بُني المنبر صار يخطب عليه، حن الجذع للنبي، فأتاه فمسح عليه.