مظاهر المحبة
تعريف المَحَبَّة لُغةً:
المَحَبَّةُ: الحُبُّ، وهو نقيضُ البُغضِ. وأصلُ هذه المادَّةِ يَدُلُّ على اللُّزومِ والثَّباتِ، واشتقاقُه من أحبَّه: إذا لَزِمه، تقولُ: أحبَبتُ الشَّيءَ فأنا مُحِبٌّ، وهو مُحَبٌّ.
المَحَبَّةُ اصطلاحًا: المَحَبَّةُ: الميلُ إلى الشَّيءِ السَّارِّ.
وقال الرَّاغِب: المَحَبَّةُ: مَيلُ النَّفسِ إلى ما تراه وتظُنُّه خيرًا.
قسم العرب في الجاهلية الحب إلى أقسام وأعطوا المحبة أعلى دراجاتها. ومن هذه الأقسام: المحبة، الهوى، المودة، الصبابة، العشق، الهيام والتيتم. مما وصلنا من المحبة التي لا تتناول الشهوة ما يسمى بالحب العذري والذي ينسب لقبيلة “عُذرة” بالقرب من المدينة المنورة، وارتبط بالغزل العفيف الذي امتدح فيه الشعراء أخلاق المحبوبة وجمال روحها وحسبها ونسبها، بدون أن يتطرقوا لوصف أو مدح يخدش حياءها، فكانوا يمتلكون رقة القلب وصدق المشاعر وهناك العديد من الأشعار الجاهلية التي تصف المحبة بين أشخاص خالية من الشهوات مثل قول الصحابي الشاعر حسان بن ثابت واصفا حبه للرسول بقوله:
يا ركن معتمد وعصمة لائـذ ** وملاذ منتجع وجار مجـاور
يا من تخيـره الإلـه لخلقـه ** حباه بالخلق الزكي الطاهـر
يا ركن معتمد وعصمة لائـذ ** وملاذ منتجع وجار مجـاور
يا من تخيـره الإلـه لخلقـه ** فحباه بالخلق الزكي الطاهـر
المحبة في الإسلام:
قال تعالى: “قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ”
فقال تعالى لنبيه ﷺ: قل لهم أني رسول الله، أدعوكم إليه فإن كنتم تحبونه فاتبعوني على دينه، وامتثلوا أمري يحببكم الله ويرض عنكم. والمحبة ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه بحيث يحملها على ما يقربها إليه، والعبد إذا علم أن الكمال الحقيقي ليس إلا لله وأن كل ما يراه كمالا من نفسه أو غيره فهو من الله، وبالله وإلى الله، لم يكن حبه إلا لله وفي الله وذلك يقتضي إرادة طاعته. والرغبة فيما يقربه إليه فلذلك فسرت المحبة بإرادة الطاعة وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول ﷺ في طاعته والحرص على مطاوعته {ويغفر لكم ذنوبكم} أي: يكشف الحجب عن قلوبكم. بالتجاوز عما فرط منكم فيقربكم من جنات عزه ويبوئكم في جوار قدسه. عبر عنه بالمحبة بطريق الاستعارة او المشاكلة ودلت الآية على شرف النبي ﷺ؛ فإنه جعل متابعته متابعة حبيبه وقارن طاعته بطاعته فمن ادعى محبة الله وخالف سنة نبيه فهو كذاب بنص كتاب الله تعالى.
وإنما كان من ادعى محبة الله وخالف سنة رسوله كاذبا في دعواه لأن من أحب آخر يحب خواصه والمتصلين به.
قال الإمام القشيري رحمه الله: ” قطع الله اطماع الكل أن يسلم لأحدهم نفسه الا مقتداهم سيد الاولين والآخرين”.
وقال القاشاني: محبة النبي ﷺ إنما تكون بمتابعته وسلوك سبيله قولا وعملا وخلقا وحالا وسيرة وعقيدة ولا تتمشى دعوى المحبة إلا بهذا فإنه قطب المحبة ومظهرها وطريقته ﷺ المحبة فمن لم يكن له من طريقته نصيب لم يكن له من المحبة نصيب واذا تابعه حق المتابعة ناسب باطنه وسره وقلبه ونفسه باطن النبى وسره وقلبه ونفسه وهو مظهر المحبة فلزم بهذه المناسبة أن يكون لهذا التابع قسط من محبة الله بقدر نصيبه من المتابعة فليقي الله محبته عليه ويسرى من روح النبي نور تلك المحبة ايضا إلى قلبه أسرع ما يكون؛ إذ لولا محبة الله لم يكن محبًا له.
وروى البخاري “وعن عبد الله بن هشام أنه كان مع النبي ﷺ وهو آخذ بيد عمر رضي الله عنه فقال عمر:” يا رسو ل الله أنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي، فقال ﷺ: والذي نفس محمد بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه فقال عمر: فإنه الآن والله أنت أحب إلى من نفسى، فقال ﷺ: الآن يا عمر صار إيمانك كاملا”.
وقال ﷺ: “كل أمتى يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا: من يأبى؟ قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى.”
ولو خرجت عن مكمن الغرور وانصفت من نفسك يا رجل وكلنا ذلك الرجل لعلمت أنك من حين تمسى إلى حين تصبح لا تسعى إلا في الحظوظ العاجلة ولا تتحرك إلا برجل الدنيا الفانية ثم تطمع في أن تكون غدا من أمته وأتباعه؟! ويحك ما أبعد ظننا وما أفحش طمعنا قال الله تعالى “أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون “القلم: 35-36
محبة الصحابة للنبي ﷺ
2- عن أنس رضي الله عنه: أنَّ أعرابيًّا قال لرسول الله ﷺ: متى الساعة؟ قال رسول الله ﷺ: ما أعددتَ لها؟ قال: حُبَّ الله ورسولِه، قال: “أنت مع مَن أحببتَ”.
متفق عليه، وهذا لفظ مسلم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، كيف تقول في رجل أحَبَّ قومًا ولم يَلحَقْ بهم؟ فقال رسول الله ﷺ: المرء مع من أحَب. متفق عليه.
الراوي: جابر بن عبدالله | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري
أنَّ رَجُلًا سَأَلَ النبيَّ ﷺ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: ومَاذَا أعْدَدْتَ لَهَا. قَالَ: لا شيءَ، إلَّا أنِّي أُحِبُّ اللَّهَ ورَسوله ﷺ فَقَالَ: أنْتَ مع مَن أحْبَبْتَ. قَالَ أنَسٌ: فَما فَرِحْنَا بشيءٍ، فَرَحَنَا بقَوْلِ النبيِّ ﷺ: أنْتَ مع مَن أحْبَبْتَ قَالَ أنَسٌ: فأنَا أُحِبُّ النبيَّ ﷺ وأَبَا بَكْرٍ، وعُمَرَ، وأَرْجُو أنْ أكُونَ معهُمْ بحُبِّي إيَّاهُمْ، وإنْ لَمْ أعْمَلْ بمِثْلِ أعْمَالِهِمْ.
الراوي: أنس بن مالك | المحدث: البخاري | المصدر: صحيح البخاري
ولم يذكُرْ غيرَها من العباداتِ القَلبيَّةِ والبَدَنيَّةِ والماليَّةِ؛ لأنها كُلَّها فروعٌ للمَحَبَّةِ مترتِّبةٌ عليها، ولأنَّ المحبَّةَ هي أعلَمُ منازِلِ السَّائِرين، وأعلى مقاماتِ الطَّائرين؛ فإنها باعِثةٌ لمحبَّةِ اللهِ أو نتيجةٌ لها، فقال له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إنَّكَ مع مَن أحببْتَ»، أي: معهم في الجنَّةِ. وليس المرادُ بالمَعِيَّةِ التساوي في الدَّرَجةِ والمنَزلةِ، بل المرادُ كَونُهم في الجنَّةِ بحيث يتمكَّنُ كُلُّ واحدٍ منهم من رؤيةِ الآخَرِ وإن بَعُد المكانُ؛ لأنَّ الحجابَ إذا زال شاهَدَ بَعضُهم بعضًا، وإذا أرادوا الرُّؤيةَ والتلاقي قدَروا على ذلك.
فقال الصَّحابةُ رِضوانُ اللهِ عليهم: «ونحْنُ كذلك»، أي: نحْنُ أيضًا نُحبُّ اللهَ ورسولَه، فهل نكونُ مع مَن أحبَبْنَا؟ فقال لهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «نَعمْ»، فَفرِحوا بذلك فرحًا شديدًا.
نموذج من ذلك، صحابي جليل اسمه ثوبان بن بُجْدُد رضي الله عنه، ثوبان هذا مرت عليه مأساة، لم تكن بسبب فقر أو مرض أو دين أو لأي شيء له تعلق بالدنيا، دخل يوماً على رسول الله ﷺ شاحب الوجه هزيل الجسم ترتسم أمارات الحزن على وجهه، فقال له صاحب أحنى قلب صلى الله عليه وسلم: (يا ثوبان، ما غير لونَك)؟ لماذا تغير لونُك ونحُل جسمك يا ثوبان؟ فقال: يا رسول الله، ما بي ضر ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، فإذا لقيتك يا رسول الله، استبشرت وعادت القوة إلى جسمي، ثم إذا ذكرت الآخرة، وأخاف أن لا أراك هناك، لأني عرفت أنك تُرفع مع النبيين، وأني إذا دخلت الجنة كنتُ في منزلة هي أدنى من منزلتك، وإن لم أَدْخُلْها لم أَرَكَ أبدًا”.
محبة الأكوان والجمادات ومعرفتهم برسول الله ﷺ:
كانَ المَسْجِدُ مَسْقُوفًا علَى جُذُوعٍ مِن نَخْلٍ، فَكانَ النبيُّ ﷺ إذَا خَطَبَ يَقُومُ إلى جِذْعٍ منها، فَلَمَّا صُنِعَ له المِنْبَرُ وكانَ عليه، فَسَمِعْنَا لِذلكَ الجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ العِشَارِ، حتَّى جَاءَ النبيُّ ﷺ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَسَكَنَتْ.
عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: جاء أعرابيٌّ إلى رسول الله ﷺ فقال: بم أعرف أنك رسول الله ﷺ، قال: أرأيتَ إنْ دعوتُ هذا العذقَ من هذه النخلة، أتشهد أني رسول الله، قال: نعم، فدعا العذقَ، فجعل العذق ينزل من النخلة حتى سقط على الأرض، فأقبل إليه، وهو يسجد ويرفع، ويسجد ويرفع، حتى انتهى إلى رسول الله ﷺ ثم قال له: ارجع فرجع إلى مكانه، فقال: والله لا أكذبك بشيء تقوله بعد أبدًا، أشهد أنك رسول الله وآمن. (الحاكم في المستدرك)
عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: كان بين يدي رسول الله ﷺ سبع حصيات، أو قال: تسعُ حصيات، فأخذهن في كفه، فسبَّحن حتى سمعت لهن حنياً كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم أخذهن فوضعهن في كف أبي بكر فسبحن، حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم تناولهن فوضعهن في يد عمر فسبَّحن حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن، ثم تناولهن فوضعهن في يد عثمان فسبَّحن حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسن.
وعن علي رضي الله عنه قال: “كنا مع رسول الله ﷺ بمكة فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا حجر إلا قال: “السلام عليك يا رسول الله” مستدرك الحاكم.
محبة النبي ﷺ لأمته الذين جاءوا من بعده:
قال الله تعالى: )لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ( (التوبة:128)، قال ابن كثير في تفسيره: “وقوله: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) أي: يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها، (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي: على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم”. وقال السعدي: “أي شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم، ولهذا كان حقّه مُقدَمًا على سائر حقوق الخلق، وواجب على الأمة الإيمان به وتعظيمه وتعزيره وتوقيره”.
ومن صور ومظاهر محبة نبينا ﷺ لأمته: دعوته لها في كل صلاة، وشدة رحمته وشفقته بها، وشفاعته لها.. ومنها كذلك: حبه واشتياقه ﷺ لمن أتى بعده من أمته وآمن به ولم يره، والأحاديث في ذلك كثيرة:
ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ كان مع أصحابه ذات يوم يزورون المقبرة فقال لهم: (وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا، قَالُوا: أَوَلَسْنَا بِإِخْوَانِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي، إِخْوَانِي الَّذِينَ يَأْتُونَ بَعْدُ، قَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ من أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ).