الاتِّباع
تعريف السنة بين المحدثين والأصوليين والفقهاء:
أولًا: تعريفها في اللغة:
هي الطريقة المتَّبعة، والسيرة المستمرَّة، سواء كانت حسنة أم سيئة، وقد استُخْدِمَت بهذا المعنى في القرآن والسُّنة، قال تعالى: ﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا﴾ الإسراء: 77
وقال رسول الله ﷺ: ((مَن سنَّ في الإسلام سُنةً حسنة، فله أجرها وأجر مَن عمِل بها بعده مِن غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومَن سنَّ في الإسلام سُنةً سيِّئة، كان عليه وزرها ووِزْر مَن عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء))
فإذا أُطْلِقت كلمة (السُّنة) مفردةً ومعرَّفةً بالألف واللام في لغةِ الصحابة والسلف، فالمراد بها: سُنة النبي ﷺ، وهي: الطريقة التي كان النبي ﷺ يتحرَّاها في تنفيذ ما بعثه الله عز وجل به من الهُدى ودين الحق.
فالسُّنة هي الطريقة والعادة المتَّبعة، والطريقة المبتدَأة، حسنة كانت أو سيئة، ولكن علماء اللغة اتَّفقوا على أن كلمة (السُّنة) إذا أُطلقت انصرفت إلى الطريقة أو السيرة الحسنة فقط، ولا تستعمل في السيئة إلا مُقَيَّدة.
ثانيًا: تعريفها في الاصطلاح:
اختلف العلماء في تعريف السُّنة على حسب اختلاف أغراضهم واختصاصاتهم، فلكل طائفة من العلماء غرضٌ خاص مِن بحثهم.
فغرض المحدِّثين: البحث عن رسول الله ﷺ القدوة، الذي أمر الله عز وجل بالاقتداءِ به في كل شيء؛ ولذلك عُنُوا بنقل كل ما نُسب إلى النبي ﷺ من أقوال وأفعال، وسيرة وشمائل، سواء أثْبَت المنقولُ حكمًا شرعيًّا أم لا، مع بيان درجته من حيث القبول والرد.
وغرض الأصوليين: البحث عن المصادر الشرعية التي تُؤْخَذ منها الأحكام الفقهية من قرآن وسنة وإجماع وقياس؛ ولذلك اعتَنَوا بما يُثْبِت الأحكام الشرعية من قولٍ وفعلٍ وتقرير فقط.
وغرض علماء الفقه: البحث عن حكم الشرع على أفعال العباد مِن فرض وواجب ومندوب، وحرام ومكروه، ومباح.
وغرض علماء الوعظ: الاعتناء بأوامر الشرع ونواهيه، فأوامره سنة، ونواهيه بدعة.
وإذا ورد لفظ (السُّنة) مطلقًا في كلام النبي ﷺ أو الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، فالمراد به الطريقة المشروعة المتبعة في الدين، والمنهج النبوي الحنيف.
-
السُّنة في اصطلاح المحدِّثين:
عرَّف المحدِّثون السُّنة بأنها: أقوال النبي ﷺ وأفعاله وتقريراته وصفاته الخِلْقِية والخُلُقية، وسائر أخباره، سواءٌ أكان ذلك قبل البعثة أم بعدها.
فالسُّنة مرادِفة للحديث المرفوع، ولا تشمل الموقوف ولا المقطوع، واستدلُّوا لذلك بأن النبي ﷺ سمَّى ما جاء على لسانه غير القرآن سُنةً، فقال: ” يا أيها الناس، إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا: كتاب الله، وسُنتي”.
وعلى هذا القول يُحمل تسمية كثير من المحدِّثين لكتبهم الخاصة بالحديث المرفوع – باسم السنن؛ مثل: سنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن النَّسائي، وسنن ابن ماجه، وسنن الدارقطني، وغيرها.
وقال بعض العلماء: السُّنة هي أقوال النبي ﷺ وأفعاله وتقريراته وصفاته، وسائر أخباره، قبل البعثة أو بعدها، وكذلك أقوال الصحابة وأفعالهم، واستدلُّوا على ذلك: بقول رسول الله ﷺ: “عليكم بسُنتي، وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ”
وقال بعض العلماء: السُّنة هي ما كان عليه العمل في الصدر الأول للإسلام، وعلى هذا يُحمل قول عبد الرحمن بن مهدي: لم أرَ أحدًا قط أعلم بالسُّنة ولا بالحديث الذي يدخل في السنة من حماد بن زيد.
وقوله عندما سُئِل عن سفيان الثوري والأوزاعي ومالك، فقال: سفيان الثوري إمامٌ في الحديث وليس بإمامٍ في السنة، والأوزاعي إمامٌ في السنة وليس بإمامٍ في الحديث، ومالك إمامٌ فيهما.
إن السُّنة هي أقوال النبي ﷺ وأفعاله وتقريراته وصفاته وسائر أخباره قبل البعثة وبعدها، وكذلك أقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم، وهذا قول جمهور المحدِّثين، وهي عندهم مرادفة للحديث؛ ولذلك سمَّى الحافظ البيهقي كتابه “السنن الكبرى“، مع أنه ضمنه فتاوى الصحابة والتابعين وأقوالهم، واستدلُّوا لذلك بأن الصحابة رضوان الله عليهم خالَطوا رسول الله ﷺ، وشاهدوا نزول الوحي، ثم خالط التابعون الصحابةَ وجالسوهم، وسمِعوا منهم، مع حبهم الشديد للسنة، وحرصِهم التامِّ على الاقتداء بالرسول ﷺ وأصحابه، مع ما كانوا عليه من فقهٍ وعلم وذكاء؛ ولذلك دخلت أقوالهم وأفعالهم في مفهوم السنة، وهذا هو أرجح الأقوال وأقواها، وهو ما جرى عليه العمل عند المحدِّثين.
-
السنة في اصطلاح الأصوليين:
عرَّف علماء أصول الفقه السُّنة بأنها: أقوال النبي ﷺ، وأفعاله، وتقريراته، التي يُسْتدَلُّ بها على الأحكام الشرعية، فهم يبحثون عن السُّنة بصفتها مصدرًا للتشريع، وتالية للقرآن الكريم، وهذه الثلاثة هي التي تُثبت الأحكام وتقرِّرها، فهي تدل على طريقته في فهم دين الله عز وجل والعمل به، أما أقواله وأفعاله وتقريراته التي تُعَدُّ من خصائصه ﷺ، فليست داخلةً في مفهوم السنة عند الأصوليين، وكذلك صفاته؛ لأنها لا تُفِيدُ حكمًا شرعيًّا يتعبَّدُ الناس به.
-
السنة في اصطلاح الفقهاء:
السنة عند الفقهاء هي: ما ثبَت طلبه بدليلٍ شرعي، من غير افتراض ولا وجوب؛ مثل: تقديم اليمنى على اليسرى في الطهارة، ومثل الركعتين قبل الظهر، فهي بمعنى المندوب والمستحبِّ، فيثاب المسلم على فعلها، ولا يعاقب على تركها، فهي أحد الأحكام الشرعية الخمسة عند الفقهاء.
أهمية السنة في العصر الحديث:
وإذا كان الدين الإسلامي يأخذ مبادئه من كتاب االله تعالى، فإنه يأخذ التفصيل والإيضاح من سنة رسوله، فتقرر أن الذي جاء في كتاب االله تعالى، والذي جاء في حديث رسول االله كلاهما ينيران طريق الهداية والإرشاد في مجالات الدين، ويؤديان غرضًا أساسياً في تبيين سمات الحياة الإسلامية الرشيدة كما أنهما يحيطان بأطراف حياة المسلم في كل زمان ومكان.
وقد رأينا وقد مضت على بزوغ شمس الإسلام أكثر من أربعة عشر قرناً أن أحكام هذا الدين الإسلامي لم تعجز في أي حال من أحوال الحياة المتطورة والمتجددة.
رغم أن هذا الدين قد تقرر في عهده الأول، عندما كانت الأمة تعيش في البادية، وبعيدة عن التعليم والكتب؛ وكان رسول االله ﷺ الذي نزل عليه القرآن، ووقعت عليه مسؤولية تبليغ الدين لم يتلقَ علماً إلا بالقرآن وحده، النازل إليه من عند ربه، وقام رسول االله ﷺ على أساس الوحي من االله تعالى بتوسيع علمه الدعوي والتربوي، واتسع نجاحه وفتوحه
حتى وصل الإسلام إلى بلدان كانت قد قطعت أشواطًا في العلم والمدنية والسياسة كبير.