الأدب معه صلى الله عليه وآله وسلم
الأدب مع النبي ﷺ:
-
معنى الأدب لغةً:
أما الأدب، فقد ذكر ابن فارس -رحمه الله-: أن الأدب دعاء الناس، إذا دعوتهم إلى شيء. وسميت المأدبة: مأدبةً؛ لأنه يدعى الناس فيها إلى الطعام. والآدب، هو الداعي. وكذلك، فإن الأدب أمرٌ قد أجمع على استحسانه. وعرفاً: ما دعا الخلق إلى المحامد ومكارم الأخلاق وتهذيبها. وذكر ابن حجر -رحمه الله تعالى- في شرحه لكتاب الأدب، من صحيح الإمام البخاري -رحمه الله-، قال: الأدب استعمال ما يحمد قولاً وفعلاً. وعبر بعضهم عنه: بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق. وقيل: الوقوف مع الأمور المستحسنة. وقيل: هو تعظيم من فوقك، والرفق بمن دونك والأدب كذلك مما ورد في تعريفه: حسن الأخلاق، وفعل المكارم. والأدب الذي يتأدب به الأديب من الناس، سُمي أدباً؛ لأنه يأدب الناس إلى المحامد، ويدعوهم إليها.
-
معنى الأدب شرعًا:
من الأخلاق التي يجب على كل مسلم أن يتحلى بها، أن يلتزم الأدب مع رسول الله ﷺ بكل صوره، وأولى هذه الصور اعتقاد تفضيله ﷺ على كل أحد من الخَلق، فهو كما وصف نفسه ﷺ متحدثًا بنعمة ربه عليه، قائلا: “أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع”
ومن الأدب مع الرسول ﷺ ألا يُتقدم بين يديه بأمر ولا نهي، ولا إذن ولا تصرف حتى يأمر هو ويأذن، كما قال تعالي: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَي اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» وهذا باق إلى يوم القيامة ولم يُنسخ، فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته، ولا فرق بينهما عند كل ذي عقل سليم.
ومن الأدب معه ﷺ ألا تُرفع الأصوات فوق صوته فإنه سبب لحبوط الأعمال، فما الظن برفع الآراء والأفكار على سنته وما جاء به؟!، قال تعالي: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ”
ومن الأدب مع النبي ﷺ ألا نذكره باسمه مجردًا، بل لابد من زيادة ذكر النبوة والرسالة لقول الله تعالي: “لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضا”.
ومن الأدب مع الحبيب ﷺ الصلاة عليه، كما أمر الله تعالي بقوله: “إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَي النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيما”.
فالصلاة والسلام علي الحبيب ﷺ من أفضل القربات، وأجل الأعمال، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “مَنْ صَلَى عَلَيَّ صَلَاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ، وَحُطَّتْ عَنْهُ عَشْرُ خَطِيئَاتٍ، وَرُفِعَتْ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ”
أما كيفية الصلاة عليه ﷺ فقد بينها رسول الله ﷺ لأصحابه حين سألوه عن ذلك، فعن كعب بن عجرة ـ رضي الله عنه ـ قال: “قيل يا رسول الله، أمّا السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟، قال: قولوا: اللهم صلِّ علي محمد وعلي آل محمد، كما صليت علي آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك علي محمد وعلي آل محمد، كما باركت علي آل إبراهيم إنك حميد مجيد”.
ومن الأدب معه ﷺ التأسي بسنته ظاهرًا وباطنًا، والتمسك بها والحرص عليها، والدعوة إليها، وتحكيم ما جاء به ﷺ في الأمور كلها، والسعي في إظهار دينه، ونصر ما جاء به، وطاعته فيما أمر به، واجتناب ما نهي عنه ﷺ.
قال القاضي عياض: اعلم أن من أحب شيئا آثره وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقًا في حبه وكان مدعيًا، فالصادق في حب النبي ﷺ من تظهر علامة ذلك عليه، وأولها الاقتداء به واستعمال سنته، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، وشاهد هذا قوله تعالي: “قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ”.
هل الأدب مقدّمٌ على الاتباع؟!
- الأدب هنا هو الاتباع، والاتباع هو عين الأدب، ومن جعل الأدب هنا شيئًا يخالف الاتباع بمعنى أنه جعل الأدب ترك الصلاة أو ارتكاب الزنا؛ كفَر.
- وإن كان المراد بالاتباع اتباع طلبِ النبي ﷺ لشيءٍ فيه تنازلٌ عن حقّ نفسه تواضعًا منه؛ فنعم، قد يكون الأدب أن تحفظ حقه الشريف، حتى لو تنازل هو عنه. فهناك طريقان: الأدب في حق الأوامر والنواهي في الشرع الشريف، والأدب والمحبة في حقه ﷺ مع شيء يتنازل هو ﷺ عنه.
أمثلة من الشرع الشريف:
(1) من ذلك ما روي في البخاري ومسلم من أمره ﷺ لسيدنا عليٍّ عليه السلام في صلح الحديبية أن يمحو كلمة “رسول الله” فرفض سيدنا عليٌّ وقال: والله لا أمحوها أبدًا.
فطلب منه النبي ﷺ أن يرشده لموضعها في الكتابة ومحاها بيده الشريفة.
فهذه مخالفة لاتباع الأمر، تقديمًا للأدب، لأن الأمر هنا هو طلبٌ فيه تنازل عن حقه الشريف تواضعًا منه. ولذلك يقول الإمام ابن حجر العسقلاني:
“وكأن عليّا فهم أن أمره له بذلك ليس متحتما، فلذلك امتنع من امتثاله”
(2) ومنه أيضًا ما روي عن سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين قدم النبي ﷺ وهو يصلي بالناس، فتخلص حتى وقف في الصف، فلما علم به أبو بكر تراجع، فأمره النبي ﷺ أن يثبت إمامًا، فأبى وأصرّ على التأخر، فتقدم النبي ﷺ ، ولما سأله بعد الصلاة: “ما منعك أن تثبت إذ أمرتك” فقال: “ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله ﷺ ”
(3) وكما حدث مع سيدنا حسان بن ثابت عندما كان يقف عند رؤيته النبي ﷺ فقال النبي ﷺ: أما قلت لكم لا تتمثلوا لي قياما كما تتمثل الأعاجم لملوكها، فأنشد سيدنا حسان بن ثابت :
قيامي للعزيـز عليَّ فرض * وترك الفرض ما هو مستقيم
عجبتُ لمن له عقلٌ وفهمٌ * يرى هذا الجمـال ولا يقوم
فابتسم الرسول ﷺ، وأقر ما فعل الصحابي حسان بن ثابت رضي الله عنه.
(4) وسيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه حيث أخَّر الطواف لما دخل الكعبة وهو محرم في قضية صلح الحديبية مع علمه بوجوب الطواف عند قدومه للكعبة
وقال: ما كنت لأفعل الطواف حتى يطوف رسول الله ﷺ
(5) وفي الأذان نقول: أشهد أن محمدا رسول الله لكن لما كان قوم لا يعرفون قدر رسول الله وينكرون سيادته، كان من باب الأدب أن نقول: أشهد أن سيدنا محمدا رسول الله
في الأذان حتى يتعلم أهل هذا الزمان الأدب في حق رسول الله ﷺ.
* وقال الشوكاني: وقد روي عن ابن عبد السلام أنه جعله من باب سلوك الأدب، وهو مبني على أن سلوك طريق الأدب أحب من الامتثال.
ونعلم أنه ذهب إلى استحباب تقديم لفظة «سيدنا» قبل اسمه الشريف في الصلاة، والأذان، وغيرهما من العبادات كثير من فقهاء المذاهب الفقهية: كالعز بن عبد السلام، والرملي، والقليوبي، والشرقاوي من الشافعية، وابن عابدين، من الحنفية وغيرهم كالشوكاني. أما تقديم «سيدنا» على اسمه الشريف في غير العبادات، فلا خلاف على جوازه بين أحد من العلماء ونرجحه في مقام سيد الخلق وحبيب الحق سيدنا محمد ﷺ فالأدب مقدم دائمًا معه ﷺ.
وقد ألف في هذه الجزئية السيد العلامة الشريف أحمد بن الصديق الغماري الحسني الإدريسي رسالة أسماها:
(تشنيف الآذان بأدلة استحباب السيادة عند اسمه في الصلاة والإقامة والأذان) وهو موجود مطبوع لمن يريد قراءته
فهذا تقديمٌ للأدب على الاتباع، ومخالفة للأمر حفظًا للأدب.
والفرق بين المقامين واضح.
جزاء إساءة الأدب:
قال تعالى: ((لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ۚ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًاۚ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌﱠ)) النور: ٦٣
جاء في تفسير ابن كثير:
قَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، عَنْ ذَلِكَ، إِعْظَامًا لِنَبِيِّهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ. وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَير.
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُهَابَ نَبِيُّهُ ﷺ، وَأَنْ يُبَجَّل وأن يعظَّم وأن يسود.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّان فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ يَقُولُ: لَا تُسَمّوه إِذَا دَعَوتموه: يَا مُحَمَّدُ، وَلَا تَقُولُوا: يَا بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَلَكِنْ شَرّفوه فَقُولُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ قَالَ: أَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يشرِّفوه.
هَذَا قَوْلٌ. وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا﴾، وَقَالَ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ الْحُجُرَاتِ: ٢-٥
فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ بَابِ الْأَدَبِ [فِي مُخَاطَبَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَالْكَلَامِ مَعَهُ وَعِنْدَهُ كَمَا أُمِرُوا بِتَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ قَبْلَ مُنَاجَاتِهِ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ أَيْ: لَا تَعْتَقِدُوا أَنَّ دُعَاءَهُ عَلَى غَيْرِهِ كَدُعَاءِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ دُعَاءَهُ مُسْتَجَابٌ، فَاحْذَرُوا أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْكُمْ فَتَهْلَكُوا. حَكَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَطِيَّةَ العَوفي، وَاللَّهُ أعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا﴾، قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّان: هُمُ الْمُنَافِقُونَ، كَانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِمُ الْحَدِيثُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ -وَيَعْنِي بِالْحَدِيثِ الْخُطْبَةَ -فَيَلُوذُونَ بِبَعْضِ الصَّحَابَةِ -أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ -حَتَّى يَخْرُجُوا مِنَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ لَا يَصْلُحُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، بَعْدَمَا يَأْخُذُ فِي الْخُطْبَةِ، وَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمُ الخروجَ أشارَ بِإِصْبَعِهِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَيَأْذَنُ لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَكَلَّمَ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ وَالنَّبِيُّ ﷺ يَخْطُبُ، بطلتْ جُمعته.
قَالَ السُّدِّي كَانُوا إِذَا كَانُوا مَعَهُ فِي جَمَاعَةٍ، لَاذَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، حَتَّى يَتَغَيَّبُوا عَنْهُ، فَلَا يَرَاهُمْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا﴾، يَعْنِي: لِوَاذًا [عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ وَعَنْ كِتَابِهِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا﴾ قَالَ: مِنَ الصَّفِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي الْآيَةِ: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا﴾ ](٦) قَالَ: خِلَافًا
وَقَوْلُهُ: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ أَيْ: عَنْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، سبيله هو(٧) وَمِنْهَاجُهُ وَطَرِيقَتُهُ وَسُنَّتُهُ٨) وَشَرِيعَتُهُ، فَتُوزَنُ الْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ بِأَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ، فَمَا وَافَقَ ذَلِكَ قُبِل، وَمَا خَالَفَهُ فَهُوَ مَرْدُود عَلَى قَائِلِهِ وَفَاعِلِهِ، كَائِنًا مَا كَانَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: “مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ”(٩. أَيْ: فَلْيَحْذَرْ وليخْشَ مَنْ خَالَفَ شَرِيعَةَ الرَّسُولِ بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا ﴿أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾ أَيْ: فِي قُلُوبِهِمْ، مِنْ كُفْرٍ أَوْ نِفَاقٍ أَوْ بِدْعَةٍ، ﴿أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، بِقَتْلٍ، أَوْ حَد، أَوْ حَبْسٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَر، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّه قَالَ: هَذَا مَا حدَّثنا أَبُو هُرَيرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا، جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ اللَّاتِي يقعن َ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، وَجَعَلَ يَحْجِزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ ويتقحَّمن فِيهَا”. قَالَ: “فَذَلِكَ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ، أَنَا آخِذٌ بحجزِكم عَنِ النَّارِ هَلُمَّ عَنِ النَّارِ، فَتَغْلِبُونِي وَتَقْتَحِمُونَ فِيهَا”. أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.
وفي صحيح مسلم “أن رجلا أكل عند النبي صلى الله عليه وسلم بشماله فقال له: كل بيمنيك، قال: لا أستطيع. قال: لا استطعت، ما منعه إلا الكبر، فما رفعها إلى فيه.”
فدل على أن من خالف السنة تكبرًا وتعاظمًا أو استهانة بها؛ فهو حري بالعقوبة كما جرى لهذا الرجل عوقب في الحال لما تكبر عن اتباع السنة.
وكان ﷺ إذا دخل في الصلاة قبل أن يكبر يقول: “لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم” يأمر الناس أن يستووا في الصفوف وأن يعدلوا صفوفهم، وفي اللفظ الآخر: لا تختلفوا فتختلف قلوبكم هذا يدل على أن مخالفة السنة سبب للعقوبات العاجلة لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم يكون بينهم الشحناء والعداوة واختلاف الوجوه نسأل الله العافية، فالواجب على المؤمن أن يتقي الله وأن يراقب الله وأن يحذر التكبر والتخلف عن السنة؛ لئلا يصيبه ما أصاب المتكبرين.