نماذج لفهم العِصْمَة
رد بعض الشبهات المتعلقة بالذات المحمدية:
مسألة تأبير النخل:
فقد أخرج مسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ مر بقوم يلقحون النخل فقال: لو لم تفعلوا لصلح، قال: فخرج شيصا ” تمرا رديئا” فمر بهم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا.. قال: “أنتم أعلم بأمور دنياكم”.
من فوائد الحديث:
- أمر النبي ﷺ الناس أن يعملوا بخبرتهم به وتجربتهم، وأخذهم بالتلقيح؛ لكونه سببًا عاديًّا، أجرى الله تعالى به سنته الكونية، كما أجرى ذلك في الحيوانات حيث تتناسل به.
- بيان عصمة الله تعالى نبيه ﷺ عن الخطأ فيما يبلغه عن الله عز وجل.
- جواز التأبير.
- الأصل في الأفعال العادية الإباحة حتى يرد دليل بالمنع.
معاني بعض المفردات:
التلقيح: وضع طلع الذكر في طلع الأنثى أول ما ينشق.
لصلُح: لكان صالحًا لأن يثمر ثمرًا طيبًا.
شيصًا: رديئًا قليلًا.
التوفيق بين وصف النبي بكاشف الغمة وبين قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ).
وصفُ النبي المصطفى والحبيب المجتبى ﷺ بأنه: كاشف الغمة: هو من أوصافه الشرعية الصحيحة الثابتة لجنابه الشريف، ولا يُعترض على ذلك بأنَّ كاشف الغمة هو الله تعالى، لأن الله كاشفها خلقًا وإيجادًا، والنبي ﷺ كاشفها تسببًا واكتسابًا، ونسبة الشيء إلى سببه جائز في العقل واللغة والشرع، وقد جمع الله ذلك في قوله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾ الأنفال: 17؛ فأثبت الرمي لرسوله ﷺ سببًا وكسبًا، ونفاه عنه خلقًا وتأثيرًا، وأثبت ذلك لنفسه سبحانه وتعالى.
وهناك فارقٌ بين اعتقاد الشيء سببًا، واعتقاده خالقًا ومؤثرًا بنفسه؛ فإنه لا خالق ولا مؤثر في الكون على الحقيقة إلا الله سبحانه، والأسباب لا تثمر المسبَّبات بنفسها وإنما بخلق الله لها، وإضافة الأفعال إلى أسبابها صحيحة لغةً وشرعًا وعقلاً، وما كان لله تعالى على جهة الخلق والتأثير جازت إضافته للمتسبب فيه على جهة السببية؛ فقد نَسَبَ اللهُ التَّوَفِّيَ لنفسه فقال: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ الزمر: 42]، ونسبه لرسله فقال: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ [الأنعام: 61]، ونسب لنفسه الخلق والشفاء والإحياء والإنباء بالمغيَّبات، ونسب ذلك لعيسى عليه السلام؛ فقال على لسانه: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 49]، ونسب الرزق لنفسه فقال: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ﴾ العنكبوت: 60]، ونسبه لعباده تسببًا فقال: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ [النساء: 8]، ونسب لنفسه تفريج الكروب فقال: ﴿قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 64]، ونسبه النبي ﷺ للمخلوقين؛ فقال: «مَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وتستوي في ذلك حياته الدنيوية وحياته البرزخية والأخروية ﷺ؛ فقد أخبر النبي ﷺ باستغفاره لأمته في برزخه الشريف، فهو “كاشف الغمة” في حياته وبعد مماته؛ فقال: «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُم؛ تُحدِثُونَ وَيُحدَثُ لَكُم، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُم؛ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُم، فَمَا رَأَيْتُ مِنَ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللهَ عَلَيْهِ، وَمَا رَأَيْتُ مِنَ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللهَ لَكُمْ» أخرجه إسماعيل القاضي في “فضل الصلاة على النبي ﷺ .
بيان الواجب اعتقاده في أصول النبي ﷺ
للشريعة مزيد اعتناء بالإشادة باصطفاء أصول النبي ﷺ وخيريتهم، وأهليتهم لحمل النور النبوي، بأدلة متواترةٍ يُعلَم منها أن الحق الذي يجب اعتقادُه ولا يجوز غيرُه، وعليه جماهير الأمة خلافًا لمن زلَّ: أن والدي النبي ﷺ مؤمنان ناجيان، بل هما خلاصة أهل الإيمان؛ لأنهما لنور النبوة مستودَعان، وقد اختارهما الله لأبوة سيد الأكوان.
فهما من الساجدين الذين قال الله في حقهم: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ الشعراء: 219.
بيان الرد علِى من يزعم أن والدي النبي الكريمين ماتا على الجاهلية:
قال الإمام الماوردي في “أعلام النبوة” (ص: 201، ط. دار الهلال): [قال ابن عباس رضي الله عنهما في تأويل قول الله تعالى: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾: أي: تقلبك من أصلاب طاهرة مِن أبٍ بعدَ أبٍ، إلى أن جعلتُك نبيًّا، وقد كان نورُ النبوة في آبائه ظاهرًا] اهـ.
وهما مِن المصطفَيْنَ الأخيار، الذين افتخَرَ بالانتساب إليهم المختار، ﷺ:
فأخرج الإمام مسلم في “صحيحه” عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ)، ورواه الخطيبُ في “الموضح”، والدِّمياطيُّ في “معجمه” فقال: (وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي هَاشِمٍ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ).
وأخرج ابن سعد في “طبقاته” عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: (خَيْرُ الْعَرَبِ مُضَرُ، وَخَيْرُ مُضَرَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ، وَخَيْرُ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ بَنُو هَاشِمٍ، وَخَيْرُ بَنِي هَاشِمٍ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَاللهِ مَا افْتَرَقَ فِرْقَتَانِ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ آدَمَ إِلَّا كُنْتُ فِي خَيْرِهِمَا).
وأخرج الحاكم في “المعرفة” -وعنه البيهقي في “الدلائل”- والسِّلَفيُّ في “الطيوريات” عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خطب رسولُ الله ﷺ فقال: (أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارٍ، وَمَا افْتَرَقَ النَّاسُ فِرْقَتَيْنِ إِلَّا جَعَلَنِي اللهُ فِي الْخَيْرِ مِنْهُمَا، حَتَّى خَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ، مِنْ لَدُنْ آدَمَ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى أَبِي وَأُمِّي، فَأَنَا خَيْرُكُمْ نَسَبًا وَخَيْرُكُمْ أَبًا)، وجزم به الحاكم في “المعرفة” واحتج به.
وروى أبو زرعة الدمشقي، عن عمرو بن قيس السَّكُوني -تابعي جليل؛ أدرك سبعين صحابيًّا أنه بلغه: أن رسول الله ﷺ قال: (اخْتَارَ اللهُ مِنَ النَّاسِ الْعَرَبَ، وَاخْتَارَ مِنَ الْعَرَبِ كِنَانَةَ، وَاخْتَارَ مِنَ كِنَانَةَ النَّضْرَ، وَاخْتَارَ مِنَ النَّضْرِ عَبْدَ مَنَافٍ، وَاخْتَارَ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ هَاشِمًا، وَاخْتَارَ مِنْ هَاشِمٍ عَبْدَ المُطَّلِبِ، وَاخْتَارَ مِنْ عَبْدِ المُطَّلِبِ عَبْدَ اللهِ، وَاخْتَارَ مِنْ عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدًا). وذكره الواقدي في “فتوح الشام” من قول خالد بن الوليد رضي الله عنه.
وأخرج البزار في “مسنده”، وابنُ شاذان -كما في “ذخائر العقبى” للمحب الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل ناس من قريش على صفيةَ بنتِ عبد المطلب رضي الله عنها، فجعلوا يتفاخرون ويذكرون الجاهلية، فقالت صفيةُ رضي الله عنها: مِنّا رسولُ الله ﷺ، فقالوا: تنبت النخلة -أو الشجرة- في الأرض الكِبَا، فقالت: وما الكِبَا؟ قالوا: الأرض التي ليست بطيبة، فذكرَتْ ذلك صفيةُ رضي الله عنها للنبي ﷺ، فغضب وقال: (يَا بِلالُ! هَجِّرْ بِالصَّلاةِ)، فهجَّر، فقام ﷺ على المنبر، فنادى بصوت فقال: (أَيُّهَا النَّاسُ! مَنْ أَنَا؟) قالوا: أنتَ رسولُ اللهِ، قال: (انْسُبُونِي)، قالوا: محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ المطلب، قال: (أَجَلْ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَأَنَا رَسُولُ اللهِ، فَمَا بَالُ أَقْوَامٍ يَبْتَذِلُونَ أَصْلِي! فَوَاللهِ إِنِّي لَأَفْضَلُهُمْ أَصْلًا، وَخَيْرُهُمْ مَوْضِعًا)، فلما سمعت الأنصارُ بذلك قالت: قوموا فخذوا السلاح؛ فإن رسول الله ﷺ قد أُغضِبَ، فأخذوا السلاح ثم أتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلمنه لا يُرَى منهم إلا الحَدَقُ، حتى أحاطوا بالناس، فجعلوهم في مثل الحَرّة، حتى تضايقت بهم أبوابُ المسجد والسكك، ثم قاموا بين يدي رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله! لا تأمرُنا بأحدٍ إلّا أبَرْنا عترته، فلما رأى النفرُ من قريش ذلك قاموا إلى رسول الله ﷺ فاعتذروا وتنصلوا، فقال رسول الله ﷺ: (النَّاسُ دِثَارٌ، وَالأَنْصَارُ شِعَارٌ)، فأثنى عليهم وقال خيرًا.
وقد استشهد بهذا الحديث جماعة من الحفاظ؛ كالسخاوي في “ارتقاء الغرف”، والسيوطي في “مسالك الحنفا”.
وأخرج الحاكم في “المستدرك” عن ربيعة بن الحارث رضي الله عنه قال: “بلغ النبيَّ ﷺ أنّ قومًا نالوا منه؛ فقالوا: إنما مثلُ محمد كمثل نخلة نبتت في كُنَاس! فغضب رسول الله ﷺ وقال:
“إِنَّ اللهَ خَلَقَ خَلْقَهُ فَجَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ الْفِرْقَتَيْنِ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ قَبَائِلَ، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ قَبِيلًا، ثُمَّ جَعَلَهُمْ بُيُوتًا، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ بَيْتًا»، ثم قال: «أَنَا خَيْرُكُمْ قَبِيلًا وَخَيْرُكُمْ بَيْتًا». ورواه الإمام أحمد وغيره عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث.
وأخرج ابن أبي عاصم في “السنة” والطبراني في “الأوسط” والبيهقي في “الدلائل” عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: (قَالَ لِي جِبْرِيلُ عليه السلام: قَلَّبْتُ الْأَرْضَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، فَلَمْ أَجِدْ رَجُلًا أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَلَمْ أَجِدْ بَنِي أَبٍ أَفْضَلَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ). قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في “أماليه”: [لوائح الصحة ظاهرة على صفحات هذا المتن، ومن المعلوم أنّ الخيريةَ والاصطفاءَ والاختيارَ من الله والأفضليةَ عنده: لا تكون مع الشرك] اهـ من “مسالك الحنفا” للسيوطي -في “الحاوي للفتاوي” (2/ 256، ط. دار الفكر(-
قال شيخ الإسلام البيجوري (ت1276هـ) في “تحفة المريد” (ص: 68، ط. دار السلام): [جميع آبائه وأمهاته ﷺ ناجون، ومحكوم بإيمانهم، لم يدخلهم كفر ولا رجس ولا عيب ولا شيء مما كان عليه الجاهلية؛ بأدلة نقلية؛ كقوله تعالى: ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾، وقوله ﷺ: “لَمْ أَزَلْ أَنْتَقِلُ مِن الْأَصْلَابِ الطَّاهِرَاتِ إِلَى الْأَرْحَامِ الزَّاكِيَاتِ”، وغير ذلك من الأحاديث البالغة مبلغ التواتر” اهـ.
فآباؤه وأمهاته ﷺ موصوفون بالسجود والاصطفاء والخيرية، وأحد هذه الأوصاف كافٍ في الدلالة على الإيمان ونفي خلافه، فكيف باجتماعها! وقد سلَّم الله على المصطفَيْنَ فقال: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ النمل: 59
والنبي ﷺ قد نهى عن الافتخار بالآباء غير المؤمنين؛ فقال: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِنَ الجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الخِرَاءَ بِأَنْفِهِ، إِنَّ اللهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ -أي: تكبُّرَها وتجبُّرَها- وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ، إِنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ» رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم، وافتخاره ﷺ بشرف أصوله، وخيرية آبائه، يستلزم إيمانهم؛ إذ حاشاه ﷺ أن يفتخر بما نهى عنه.
قال الإمام ابن حجر الهيتمي في “الفتاوى”: [إن العارف المحقق سيدي محيي الدين بن العربي (ت632هـ) قال: إن أبوي النبي ﷺ مِن المصطَفَيْنَ الأخيار، ومن الأكابر الأبرار، وسندُه: ما ذكره مسلمٌ مِن حديث الاصطفاء، وما ذكره البخاري مِن حديث كونه ﷺ مبعوثًا في خير القرون، والأحاديث الواردة في الاصطفاء والخيرية؛ فإنهما يستلزمان الإسلام، بل يدلان على عدم صدور الذنب] اهـ نقلًا عن العلامة البرزنجي في كتاب “سداد الدين” (ص: 92، ط. دار الكتب العلمية).
وسئل القاضي أبو بكر بن العربي (ت543هـ) عن رجل قال: إن أبا النبي في النار! فأجاب: بأنّ مَن قال ذلك فهو ملعون؛ لقوله تعالى: ﴿إنّ الذين يُؤذُونَ اللهَ ورَسُولَه لَعَنَهم اللهُ في الدنيا والآَخِرةِ وأَعَدَّ لَهم عَذابًا مُهِينًا﴾ [الأحزاب: 57]، قال: [ولا أذًى أعظم من أن يقال عن أبيه ﷺ إنه في النار] اهـ من “مسالك الحنفا” في “الحاوي للفتاوي” (2/ 279).
وقال الإمام الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقي (ت842هـ):
تنقَّل أحمـدٌ نورًا عظيمًـــا … تلألأ في جبـاه الساجدينا
تقلَّب فيهـمُ قرنًـــا فقرنًـــا … إلى أن جاء خيرَ المرسلينا
وسُئِل شيخُ الإسلام قاضي قضاة الديار المصرية شيخُ الشافعية شرفُ الدين يحيى بنُ محمد المناوي (ت871هـ) عن والد النبي صلى الله عليه وسلم: هل هو في النار؟ فزأر في السائل زأرةً شديدة، فقال له السائل: هل ثبت إسلامه؟ فقال: [إنه مات في الفترة؛ ولا تعذيب قبل البعثة] اهـ، نقله عنه الإمام السيوطي في “مسالك الحنفا” ضمن “الحاوي للفتاوي” (2/ 245).
وقال الإمام القسطلاني الشافعي (ت923هـ) في “المواهب اللدنية” (1/ 111، ط. المكتبة التوفيقية): [والحذرَ الحذرَ مِن ذكرهما بما فيه نقصٌ، فإن ذلك قد يؤذي النبي ﷺ؛ فإن العرف جارٍ بأنه إذا ذُكِرَ أبو الشخص بما يُنقِصُه، أو وُصِفَ بوصفٍ به وذلك الوصفُ فيه نقصٌ: تأذَّى ولدُه بذكر ذلك له عند المخاطبة، وقد قال ﷺ : «لَا تُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ بِسَبِّ الْأَمْوَاتِ» رواه الطبراني في “الصغير”، ولا ريب أن أذاه ﷺ كفرٌ] اهـ.
وقال إمام الشافعية في زمنه العلامةُ ابنُ حجرٍ الهيتميُّ (ت973هـ) في “الفتاوى”: [إياك أن يسبق لسانُك إلى غير ما قلنا -يعني: من النجاة- فتكون ممن آذى رسول الله ﷺ؛ فتستحق اللعنة بنص القرآن؛ كما قدّمنا عن ابن العربي، وإذا كان رسولُ الله ﷺ قال لمّا شكا إليه عكرمةُ بن أبي جهل رضي الله عنه قولَ الناس “هذا ابنُ أبي جهل”: «لَا تُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ بِسَبِّ الْأَمْوَاتِ»، هذا مع كونه أبا جهل، فما ظنك بمن يتكلم في آبائه ﷺ بما يحطهم عن غاية الشرف والرفعة! نعوذ بالله من ذلك، ونسأله السلامة عن الخوض في مثل هذه المهالك] اهـ نقلًا عن “سداد الدين” (ص: 87) للبرزنجي.
وصَدَرَت بذلك فتوى مفتي الديار المصرية العلامة محمد بخيت المطيعي (ت1354هـ)، والتي قال فيها ردًّا على مَن زَعَم أن أبَوَي المصطفى ﷺ لَيْسَا مؤمنَيْنِ: [قد أخطأ خَطَأً بَيِّنًا؛ يَأثَمُ ويَدخُلُ به فِيمَن آذى رسولَ الله ﷺ
الخلاصة:
عليه: فالحق الذي يجب اعتقادُه ولا يجوز غيرُه: أن والدي النبي ﷺ مؤمنان، وهما خلاصة أهل الاصطفاء والإيمان؛ لأن الله اختارهما لنور النبوة؛ فهما خير مستقَرٍّ ومستودَعٍ.
والله سبحانه وتعالى أعلم (رقم الفتوى (5863