الحياة البرزخية
من حكم الموت أن الله تعالى خلق الموت والحياة ابتلاء لعباده واختبارًا لهم ليعلم من يطيعه ممن يعصيه.
وإذا كانت الحياة آية من آيات الله، فالموت كذلك آية أخرى تضاد الحياة، ولكنها لا تقل عنها عجبا، قال تعالى: ﴿كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون﴾ [البقرة:28]. والتفكر في هـذه الآية تفكر في خلق من خلق الله وعجائبه، الدال على عظيم قدرته، وعجيب أمره
تعريف الموت لغةً واصطلاحًا شرعيًّا:
الموت لغة: ضد الحياة، وهو بمعنى الوفاة. والموت شرعًا: ” مفارقة الروح البدن “.
قال العلماء: الموتُ ليس بعدمٍ محْضٍ، ولا فناءٍ صرفٍ، و إنما هو انقطاعُ تعلقِ الروحِ بالبدنِ، ومفارقتُهُ، وحيلولة بينهما، وتبدلُ حالٍ، وانتقالٌ من دارٍ إلى دار، وهو من أعظم المصائبِ، وقد سمّاه اللهُ تعالى مصيبةٌ في قولهِ: ﴿فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ﴾ [المائدة: ١٠٦ فالموتُ هو المصيبةُ العُظمى والرزيةُ الكُبْرَى.
قال علماؤنا: وأعظمُ منه الغفلةُ عنه، والإعراضُ عن ذِكْرِهِ، وقلةُ التفكرِ فيهِ، وتركُ العمل له، وإنّ فيه وحدَه لعبرةً لمن اعتبرَ، وفكرةً لمن تفكر.
في خبرٍ يُروى عن النبي ﷺ: “لو أنّ البهائمَ تعلمُ مِن المَوْتِ ما تعلمون ما أكلتُم مِنها سمينًا”.
إن الموت مرحلة يمر بها الإنسان، ومنزلة يردها، وحقيقة لا يتخطاها، وكأس يتجرعها، ومنهل يستقي منه، وللموت حكم كثيرة، ففيه يتجلى كمال قدرة الله الخالصة سبحانه، وعظيم حكمته في تصريف أطوار الخلق: فهو الذي أنشأ هـذا الإنسان من عدم، ثم أوجده طورا بعد طور، وخلقا بعد خلق، حتى صار بشرا سويا، يسمع ويبصر، ويعقل ويتكلم، ويتحرك ويسالم ويخاصم، ويتزاوج ويتناسل، يعيش على أرض الله، وينال من رزق الله، ثم بعد ذلك كله يميته الله تعالى، فلا يأكل، ولا يشرب، ولا يسمع، ولا يبصر، ولا يعقل، ولا يتحرك، فيزول بعد بقاء، وينتفي بعد وجود، وكل ذلك بتصريف الله وقدرته، وبالغ حكمته في خلق الأمور المختلفة، والأحوال المتضادة.
حياة البرزخ.. حياة بين حياتين:
وهنا تبدأ حيـاة البـرزخ، والبرزخ اسم ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى البعث، قال تعالى: ﴿ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون﴾ [المؤمنون: 100]. والبرزخ هو الحاجز بين الشيئين بحيث يمنع من اختلاطهما، يقول سبحانه: ﴿وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا﴾ [الفرقان:53]، جعل بينهما حاجزا. فهناك حاجز بينهم وبين الآخرة، إنها حياة أهل القبور، حياة ما بعد الموت، حياة البرزخ بين الدنيا والآخرة، تستقر فيها أرواح الموتى، وهي عالم روحاني لا يقاس ما فيه على عالم الدنيا المادي، فلا تحكمه قوانين المكان والزمان والمادة؛ بل هو عالم آخر له أحواله وأسراره.
الحياة الآخرة:
(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
التفسير: قل -أيها الرسول- لمنكري البعث بعد الممات: سيروا في الأرض، فانظروا كيف أنشأ الله الخلق، ولم يتعذر عليه إنشاؤه مبتدَأً؟ فكذلك لا يتعذر عليه إعادة إنشائه النشأة الآخرة. إن الله على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء أراده.
وجاء في تفسير السعدي:
قُلْ لهم، إن حصل معهم ريب وشك في الابتداء: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ بأبدانكم وقلوبكم فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ، فإنكم ستجدون أمما من الآدميين والحيوانات، لا تزال توجد شيئًا فشيئًا، وتجدون النبات والأشجار، كيف تحدث وقتا بعد وقت، وتجدون السحاب والرياح ونحوها، مستمرة في تجددها، بل الخلق دائما في بدء وإعادة، فانظر إليهم وقت موتتهم الصغرى -النوم- وقد هجم عليهم الليل بظلامه، فسكنت منهم الحركات، وانقطعت منهم الأصوات، وصاروا في فرشهم ومأواهم كالميتين، ثم إنهم لم يزالوا على ذلك طول ليلهم، حتى انفلق الإصباح، فانتبهوا من رقدتهم، وبعثوا من موتتهم، قائلين: “الحمد للّه الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور”، ولهذا قال: ﴿ثُمَّ اللَّهُ﴾ بعد الإعادة ﴿يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ﴾ وهي النشأة التي لا تقبل موتًا ولا نومًا، وإنما هو الخلود والدوام في إحدى الدارين، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فقدرته تعالى لا يعجزها شيء وكما قدر بها على ابتداء الخلق، فقدرته على الإعادة من باب أولى وأحرى.
قوله تعالى: ﴿وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ جاء في تفسير ابن كثير:
“ثم بين- سبحانه – هوان هذه الحياة الدنيا، بالنسبة للدار الآخرة فقال: وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ، وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
واللهو: اشتغال الإنسان بما لا يعنيه ولا يهمه.
أو هو الاستمتاع بملذات الدنيا.
واللعب: العبث.
وهو فعل لا يقصد به مقصد صحيح.
أي: أن هذه الحياة الدنيا، وما فيها من حطام، تشبه في سرعة انقضائها وزوال متعها، الأشياء التي يلهو بها الأطفال، يجتمعون عليها وقتا، ثم ينفضون عنها.
أما الدار الآخرة، فهي دار الحياة الدائمة الباقية، التي لا يعقبها موت، ولا يعتريها فناء ولا انقضاء.
ولفظ (الحيوان( مصدر حي.
سمى به ذو الحياة، والمراد به هنا: نفس الحياة الحقة.
وقوله: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي: لو كانوا يعلمون حق العلم، لما آثروا متع الدنيا الفانية على خيرات الآخرة الباقية.”
حياة الأنبياء في البرزخ:
إنَّ الأنبياءَ أحياءٌ في قبورهم؛ وهم أولى بذلك من الشهداء الذين ورد فيهم النص القرآني في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (آل عمران: 169)
والإجماع على أنَّ الأنبياء أرفعُ درجة من الشهداء، وقد رأى النبيّ محمد ﷺ نبيّ الله موسى عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج يصلي في قبره، كما رآه في السماء السادسة، وقد راجعه مرارًا في أمر الصلاة.
وفي السنة كثير من الأحاديث الدالة على حياة الأنبياء؛ من ذلك حديث: “الْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّون” رواه أبو يعلى في “مسنده” والبيهقي في “حياة الأنبياء في قبورهم” من طرق متعددة من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، كما أنه قد صحَّ عن النبي ﷺ قوله: “إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ” رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه في “سننهم” وابن خزيمة في “صحيحه” وأحمد في “مسنده”، وأنه ﷺ قد اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس، وفي السماء.
وأمَّا قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: 30] فمعناه: أنَّ روحك ستفارق بدنك وتدخل في عالم آخر، وحديث: “حَيَاتِي خَيْرٌ لَكَمْ تُحْدِثُونَ وَيُحَدَثُ لَكَمْ، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكَمْ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ، فَمَا رَأَيْتُ مِنْ خَيْرٍ حَمَدَتُ اللهَ عَلَيْهِ، وَمَا رَأَيْتُ مِنْ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللهَ لَكَمْ” رواه البزار في “مسنده” وغيره. فهو حديث صحيح ومُحْتَجٌّ به في هذا المقام وفي غيره.
وحياةُ الأنبياء في قبورهم حياة برزخية لا يعلم كيفيتها إلا الله تعالى، ولا يجوز شرعًا أن نجول في هذا الميدان، وكلُّ ما هو مطلوب منا أن نؤمن بحياة الأنبياء والشهداء حياة عند ربهم هو وحده الذي يعلم كيفيتها وماهيتها.
حياة سيدنا محمد ﷺ في قبره الشريف:
وهذا ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة:
من الكتاب:
قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ ﴾ الحجرات: ٧
قال الإمام البغوي: “واعلموا أن فيكم رسول الله” فاتقوا الله أن تقولوا باطلًا أو تكذبوه ، فإن الله يخبره ويعرفه أحوالكم فتفتضحوا.
وقوله تعالى: “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”
قال مجاهد: هذا وعيد ، يعني من الله تعالى للمخالفين أوامره بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى ، وعلى الرسول ، وعلى المؤمنين . وهذا كائن لا محالة يوم القيامة ، كما قال: (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية) الحاقة : 18، وقال تعالى: (يوم تبلى السرائر) الطارق9 ، وقال: (وحصل ما في الصدور) العاديات :10، وقد يظهر ذلك للناس في الدنيا، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله ﷺ أنه قال : “لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة ، لأخرج الله عمله للناس كائنا ما كان”.
وقد ورد: أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ، كما قال أبو داود الطيالسي : حدثنا الصلت بن دينار، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: “إن أعمالكم تعرض على أقربائكم وعشائركم في قبورهم، فإن كان خيرا استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم ألهمهم أن يعملوا بطاعتك”.
وقال الإمام أحمد: أخبرنا عبد الرزاق، عن سفيان، عمن سمع أنسًا يقول: قال النبي ﷺ: “إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات، فإن كان خيرًا استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا”.
وقال البخاري: قالت عائشة رضي الله عنها: “إذا أعجبك حسن عمل امرئ، فقل: اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”. انتهى من تفسير ابن كثير.
وجاء في تفسير السعدي: “يقول تعالى: (وَقُلْ) لهؤلاء المنافقين (اعْمَلُوا) ما ترون من الأعمال، واستمروا على باطلكم، فلا تحسبوا أن ذلك سيخفى (فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي: لا بد أن يتبين عملكم ويتضح، (وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من خير وشر، ففي هذا التهديد والوعيد الشديد على من استمر على باطله وطغيانه وغيه وعصيانه. ويحتمل أن المعنى: أنكم مهما عملتم من خير أوشر، فإن اللّه مطلع عليكم، وسيطلع رسوله وعباده المؤمنين على أعمالكم ولو كانت باطنة.
من السنة:
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ، فَإِنَّ صَلَاةَ أُمَّتِي تُعْرَضُ عَلَيَّ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ، فَمَنْ كَانَ أَكْثَرَهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً كَانَ أَقْرَبَهُمْ مِنِّي مَنْزِلَةً ”
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ”.