أهلُ الدَّلائِل
التعريف بمدينة فاس:
نبــــــــــــذة تـــــــــــاريخية:
تعتبر مدينة فاس أول عاصمة في تاريخ المغرب، حيث تأسست سنة 808 على يد المولى إدريس الثاني، ثم اختارها المرينيون خلال القرن 13 كعاصمة لهم، وبعدهم المولى عبد الله في القرن 19 .
وتعتبر بدون شك المركز الروحي والثقافي للمغرب، كما تتميز بتنوع مناظرها وعظمة ماضيها.
ويمكن تقسيم تاريخ فاس إلى 3 حقب : ” فــــاس البــــالي “ في عهد المولى إدريس الثاني في أوائل القرن التاسع ، ثم ” فاس الجديد ” في القرن الثالث عشر وأخيرا ” المدينة الحديثة “ منذ القرن التاسع عشر .
وقد تميزت فاس باستقبالها للأسر الأندلسية المسلمة والتي نزحت إليها واستقرت بالضفة اليمنى لنهرها، وكذا للأسر القيروانية المنفية والتي استقرت بالضفة اليسرى. ويرجع الفضل لهذه الأخيرة في إنشاء ” جامع القرويين “ والذي يعتبر أعرق مركز للتعليم في العالم ولا يزال إلى يومنا هذا مركزا رائدا على مستوى المغرب العربي.
وقد لعب موقعها الاستراتيجي دورا مهما في جعلها قطبا اقتصاديا وتجاريا حيث كانت حلقة وصل بين أهم المدن التجارية آنذاك مثل: سبتة ، سلا، تلمسان، سجلماسة، قرطبة والقيروان.
كل هذه العوامل مكنت منظمة اليونسكو على تصنيف مدينة فاس ضمن قائمة التراث العالمي منذ سنة 1981 .
الأثر الصوفي في بلاد المغرب:
تأثر أهل المغرب بوضوح بالزهد الإسلامي على اعتبار أنه من شيم الصالحين من الفاتحين المسلمين وسلفهم من الصحابة والتابعين الذين وصل بعضهم إلى منطقة الغرب الإسلامي، إلى جانب كونه سمت الفقهاء المتقين من القرون الأولى، لكن أثر هذا التصوف اقتصر على الجانب الأخلاقي، ولم يذهب إلى التصوف الفلسفي رغم النشاط الكبير لهذا المذهب.
الزوايا المغربية
ظهرت الزوايا في المغرب بعد القرن الخامس الهجري إبان حكم يعقوب المنصور الموحدي، الذي بنى زاوية في مدينة مراكش، واعتنى ملوك المغرب بإنشاء الزوايا، مثل “دار الضيافة” التي بناها المرينيون، أو الزاوية العظمى التي أسسها أبو عنان فارس، خارج مدينة فاس، وكانت تسمى في فترة من فترات تاريخ المغرب “دار الكرامة”.
ولم ينقطع المتصوفة عن ممارستهم الحياة الاجتماعية العادية، وكانوا يسلكون طريق التذوق والارتقاء في مقامات أهل الطريق، وعدم المبالاة بظهور الكرامات أو حصول الشهرة، ويسعون إلى التستر على كراماتهم وأحوالهم.
وتنشط في المغرب عشرات الزوايا الصوفية، مثل الطريقة الشاذلية التي تنسب إلى أبي الحسن الشاذلي، وهناك الزاوية البودشيشية القادرية والزاوية الدلائية، وغيرها.
ويقول الباحث خالد الحاتمي إن الزوايا في المغرب لا تستهدف تدبير الشأن العام، وإن كانت لها أدوار اجتماعية وأخلاقية وتربوية.
ويضيف الحاتمي أن “دور الزوايا الأساسي يكون في تربية النفس، وبذلك تتطهر النفس من كل الكبائر والسلوك المشين، وبالتالي الاعتماد الكلي يكون على الأخلاق وهي رأسمال الزوايا”.
الحضور الروحي لبلاد المغرب العربي وأثره الممتد إلى جنوب صحراء إفريقيا:
وتشكل أفريقيا بالنسبة للمغرب امتدادا جغرافيا وتاريخيا، وكانت البلاد بمثابة حلقة وصل بين الشمال والجنوب، ومسارا لتجارة القوافل القديمة، كما أن الارتباط الثقافي والديني بالمغرب كان وثيقا وما يزال.
ويعتبر المذهب المالكي السائد في كثير من البلدان الأفريقية والطرق الصوفية على حد سواء، كما تتشابه العديد من العادات والمواسم والتقاليد في الزواج والمناسبات.
والحضور المغربي الديني والثقافي ظل متواصلا بأفريقيا جنوب الصحراء على طول المدى الزمني، الذي شهد بداية قيام الزاوية التيجانية هناك، ونشأتها وانتشار نفوذها في بلدان حوضي السنغال والنيجر وما وراءهما.
وإلى يومنا هذا، ما زالت الزاوية التيجانية محافظة على استمرارية الروابط التاريخية التي جمعت بين المغرب وبلدان “السودان الغربي”، عبر تاريخه الإسلامي، بالإضافة إلى الدور التاريخي الذي لعبته مدينة فاس كعاصمة دينية وعلمية، توافد عليها الأفارقة ليتتلمذوا على يد علماء القرويين.
والطريقة التيجانية طريقة صوفية سنية تنتسب إلى الشيخ أبي العباس أحمد التيجاني، ويسمى أتباعها “التيجانيين”، وتنتشر في عدة دول عربية وأفريقية، ويحج أتباعها إلى مدينة فاس المغربية -حيث يرقد مؤسسها- كل سنة لإحياء موسم الزاوية.
يقول الباحث المغربي محمد نعناعي إن بلاده منبع كثير من روافد التصوف عبر العالم وفي جنوب الصحراء الأفريقية.
ولم تكن العوامل الطبيعية القاسية للصحراء، ولا وعورة المسالك الرملية، ولا طول الطريق بين المغرب وبلاد السودان الغربي؛ كافية لكبح روابط التواصل المختلفة بين سكان المنطقة، مما أسهم في خلق لحمة اجتماعية انصهر فيها العرب والأمازيغ والزنوج، خاصة في المناطق الصحراوية.
ويضيف نعناعي أن دور المغرب في التصوف بدول جنوب الصحراء لا يزال مستمرا، ويتجلى مثلا في ذلك الارتباط التاريخي بين الزاوية التيجانية التي لا يزال أتباعها مرتبطين روحيا بمركزها بفاس، حيث يفدون إليها كل سنة، خاصة من السنغال.
من أعلام التصوف المغربي: محمد بن سليمان الجزولي.
هناك شخصيات علمية مغربية بارزة، طبقت شهرتها الآفاق، وذاع صيتها في المغرب والمشرق كالقاضي عياض والشاذلي، والجزولي… وغيرهم. ومن المقرر المعروف أن كتبا مغربية قد أدركت من الشهرة والذيوع في أرجاء العالم الإسلامي ما لم يدركه غيرها : مثل الشفا، وترتيب المدارك، ودلائل الخيرات…
واعتبارا لمكانة الجزولي في التصوف المغربي والإسلامي، ولأهمية كتابه “الدلائل” وآرائه ورسائله في التصوف، فإنني آمل تخصيص بعض المقالات لهذه الشخصية العلمية الفذة، للكشف عن هذا المكانة والتعريف به وبخصوصيات طريقته، وكتابته الصوفية، وتحليل بعض أذكاره وتصلياته، وعلى رأسها “دلائل الخيرات”.
وسأفتتح هذه المقالة بربط الجزولي وطريقته بشبكات الطرق والطوائف المعروفة قبله، والتي سيتخذها أرضية لتأسيس طريقته الخاصة : أي الطريقة الجزولية.
الطوائف الصوفية وأسانيدها :
الصوفية بالمغرب في ثلاث:
.1) من الجنيد إلى الشاذلي.
.2) ومن الشاذلي إلى الجزولي.
.3) وما بعد الجزولي.
وكان أكثر دقة عندما جعل هذا التصوف ممثلا في ثلاث مدارس:
.1) مدرسة الجنيد، يتبعها الشيعيون والأمغاريون.
.2) مدرسة الغزالي، يتبعها الماجريون والحاحيون والأغماتيون والحنصالون.
3) .مدرسة الشاذلي، وهي التي سيمثلها الجزولي وزروق وأتباعهما1.
وقد تبع الأستاذ علال الفاسي هذا التقسيم، مع تعديل بسط عندما جعل المراحل أربعة:
.1) من الجنيد والبسطامي إلى عهد أبي مدين والجيلاني.
.2) من الجنيد إلى الشاذلي
3) .من الشاذلي إلى الجزولي.
.4) ما بعد الجزولي.
وتتفق هذه التقسيمات على وجود شخصيات مهمة وجهت التصوف وتركت آثارها عليه، وأهمها : الجنيد، الجيلاني الغزالي، أبو مدين، ابن مشيش، والشاذلي .
من الشاذلي إلى الجزولي:
ليس في نيتنا التعرض إلى الطريقة الشاذلية بتفصيل، فهذا لا يسمح به المجال، ولكن هدفنا تقديم الخطوط الرئيسية لها مع التركيز على الأسانيد الرابطة بين الشاذلي والجزولي.
والشاذلي هو أبو الحسن علي بن جبار المغربي دفين صعيد مصر (المتوفى سنة ست وخمسين وستمائة)، فقد قضى أغلب مراحل حياته في الرحلة بين مصر والحجاز وبلدان المشرق آخذا عن العلماء والصوفية بها إلا أن أشهر شيوخه هما عبد السلام بن مشيش، ومحمد بن علي بن حرزهم، لهذا اشتهرت طريقته أول الأمر بالمشرق والأندلس قبل أن ينقلها تلامذته المغاربة إلى المغرب.
واعتنى بها الناس في مختلف العصور، وبالغوا في تقديرها وتعظيمها حتى أننا كثيرا ما نسمع عند المصنفين أمثال محمد المهدي الفاسي مثل هذه الأقوال : “لو حلف حالف أن ما عليه أهل الطريقة الشاذلية هو الذي كانت منطوية عليه صدور الصحابة رضي الله عن جميعهم لبر في يمينه”. وقيل أن الطريقة الشاذلية نسخت سائر الطرق، كما نسخت الملة المحمدية سائر الملل.
وبنى الشاذلي طريقته على المواظبة على الذكر والصلاة على النبي، ولم يشترط الشيخ إذ بوسع السالك أن يصل إلى القطبانية بلا وساطة كما أنه لم يشترط اتخاذ رباط أو زاوية.
وعرفت تغييرا على يد تلامذته، ولخص ابن الخطيب مبادئ الشاذلية في عبارة “لا إله إلا الله” وجعل السالكين تسعة أصناف تبدأ من أفراد الكلمة باللسان وتنتهي بمرتبة الفناء أي التوحيد وإسقاط التدبير مع الحـق.
وقد أحصى جورج دراك G. Drague تسع عشرة طريقة متفرعة عن الشاذلية في الغرب العربي43 وأشهرها الطريقة الجزولية والطريقة الزروقية، خصص لهما محمد المهدي الفاسي مؤلفه “تحفة أهل الصديقية بأسانيد الطائفة الجزولية الزروقية” تحدث فيه عن مبادئهما وطبقاتهما، وأتباع كل طبقة.
وتكاد كل كتب الطبقات والسلسلات تتفق على اتصال الطريقة الجزولية بالشاذلي حسب السند التالي :
– فقد أخذ محمد بن سليمان الجزولي.
– عن أبي عبد الله محمد أمغار (من رباط تيط).
– عن سعيد الهرتناني (من رباط هرتنانة).
– عن أبي زيد عبد الرحمن الرجراجي.
– عن أبي الفضل الهندي.
– عن أحمد عنوس البدوي.
– عن أحمد القرافي.
– عن أبي عبد الله محمد المغربي.
– عن أبي الحسن الشاذلي.
وقد نظم بعض العلماء هذا السند تسهيلا لحفظه.
الجزولي وما بعده:
يعد الجزولي معلمة من معالم التصوف المغربي الإسلامي. فإليه انتهت الطريقة الشاذلية، وعنه تتفرع جملة من الطرق التي يكثر اتباعها في كافة أنحاء العالم الإسلامي : كالطريقة التباعية، والغزوانية، والفلاحية، والبكرية، والعيساوية، والشرقاوية، والبوعمروية…
واشتهر الجزولي، كذلك بأحزابه وأوراده وأذكاره، وعلى رأسها “دلائل الخيرات” والتي ظلت محل رعاية وعناية في مختلف العصور. هذا بالإضافة إلى إسهامه في المجالات التربوية والاجتماعية والسياسية، وسعيه نحو إصلاح مجتمعه وتوجيهه. ا.ت
مقتطف من”مقالة لحسن غلاب ” بمجلة دعوة الحق