زيارة سيدنا الحبيب ﷺ
ما حكم زيارة القبور عمومًا وزيارة قبر النبي ﷺ خصوصا؟ وهل يجوز شد الرحال بقصد زيارة قبر النبي ﷺ وقبور الصالحين؟
الجواب:
الجواب عن هذا السؤال من شقين، الشق الأول: حكم زيارة قبور الصالحين من المسلمين وقبر النبي ﷺ، والشق الثاني: حكم السفر بقصد زيارة قبر النبي ﷺ أو قبور الصالحين.
أولاً: حكم زيارة قبور المسلمين وقبر النبي ﷺ:
اتفقت أمة المسلمين كآفة على جواز زيارة القبور، واتفق العلماء جميعاً على أنها مستحبة للرجال، واستحبها الحنفية للنساء أيضاً، وذهب الجمهور إلى جوازها مع الكراهة لرقة قلوبهن وعدم قدرتهن على الصبر، ودليل استحبابها قوله ﷺ: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزروها فإنها تذكر الآخرة)، وعند جمهور العلماء لا كراهة لزيارة النساء لقبر النبي ﷺ، بل يستحب لهن زيارته وقبور الأنبياء. وهذا الاستثناء مبني على عموم الأدلة على زيارة النبي ﷺ.
ثانيًا: زيارة قبر النبي ﷺ:
زيارة قبر النبي ﷺ، وروضته الشريفة، من أعظم القُرُبات وآكد المستحبات، لِمَا ورد من الأحاديث النبوية الشريفة في استحباب ذلك، وجعل هذه الزيارة موجبة لشفاعته ﷺ لزائريه، وقد صحَّح جميع الحفَّاظ الأحاديث الواردة في ذلك؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “مَن جَاءَنِي زَائِرًا لَا تُعْمِلُهُ حَاجَةٌ إِلَّا زِيَارَتِي، كَانَ حَقًّا عَلَيَّ أَن أَكُونَ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ”. أخرجه الطبراني في معجميه “الكبير” و”الأوسط”.
وعنه أيضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “مَن زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي”. أخرجه الدارقطني في “السنن”.
وعن ابن عمر رضي الله عنه، أن رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، قال: “مَنْ حَجَّ فَزَارَ قَبْرِي بَعْدَ مَوْتِي، كَانَ كَمَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي”. أخرجه الإمام البيهقي في “شعب الإيمان” و”السنن الكبرى”، والإمام الطبراني في “المعجم الأوسط”.
وقد أجمعت الأمة الإسلامية على جواز زيارة النبي ﷺ، وذهب جمهور العلماء المؤهلين للفتوى في مذاهبهم إلى أن زيارة النبي ﷺ سنة مستحبة.
وذهب بعض المحققين إلى أنها سنة مؤكدة تقترب من الوجوب، وهو الفتوى عند قسم من الحنفية، وذهب إليها الفقيه المالكي أبو عمران موسى بن عيسى بوجوبها.
واستدلوا في هذا على أدلة متعددة منها قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا) النساء: ٦٤
فهذه الآية مطلقة لا دليل نصيا ولا عقليا يخصصها، ولا شيء يختص بها في حياة النبي الدنيا، ولذلك فهي باقية إلى آخر الزمان.
وعادة ما يكون معنى القرآن في عموم صيغته لا في خصوصية سبب نزوله، وكذلك قوله ﷺ: “من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي”، وكذلك الحديث الذي يقول: “من زار قبري وجبت له شفاعتي”.
بعض الآداب التي ينبغي مراعاتها عند زيارة رسول الله ﷺ لقبره:
خفض الصوت، والوقوف بوقار وخشوع، واستحضار صورة النبي وهيبته، وعدم التعدي على القبر الشريف بلمسه أو الطواف به أو نحو ذلك، ولكن لا بأس بلمس منبره المبارك كما رواه أحمد.” قال ابن قدامة: لا يستحب لمس جدار قبر النبي ﷺ ولا تقبيله
، قال أحمد: لا أعلمه، قال الأثرم: رأيت أهل العلم المقيمين بالمدينة لا يمسون قبر النبي ﷺ، ولكن يقفون على جنبه ويسلمون عليه، قال أبو عبد الله: كان ابن عمر يفعل ذلك، وأما المنبر فقد روي عنه. ومعنى ذلك أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد القارئ روى أنه رأى ابن عمر وضع يده على مقعد النبي ﷺ في المنبر ثم وضعها على وجهه.
ويستحب عند زيارة حضرة النبي ﷺ:
أن يقف المسلم مستقبلًا القبر الشريف والقبلةُ خلفه، ناظرًا إلى أسفل المواجهة الشريفة، غاضَّ الطرف، ممتلئَ القلب إجلالًا وتعظيمًا وتوقيرًا لمنزلة مَن هو في حضرته ﷺ، مستحضرًا أنه ﷺ حيٌّ في قبره يسمعه ويردّ عليه السلام، ثم يسلِّم بصوت معتدل قائلًا: “السلام عليك يا سيدي يا رسولَ الله، السلام عليك يا نبيَّ الله، السلام عليك يا خِيرةَ الله، السلام عليك يا خَيرَ خَلقِ الله، السلام عليك يا حبيبَ الله، السلام عليك يا نذيرُ، السلام عليك يا بشيرُ، السلام عليك يا طاهرُ، السلام عليك يا نبيَّ الرحمة، السلام عليك يا نبيَّ الأمة، السلام عليك يا أبا القاسم، السلام عليك يا رسولَ ربِّ العالمين، السلام عليك يا خيرَ الخلائق أجمعين، السلام عليك يا قائدَ الغُرِّ المُحَجَّلِين، السلام عليك وعلى آلِ بيتِك وأزواجِك وذريتِك وأصحابِك أجمعين، السلام عليك وعلى سائر الأنبياء وجميع عباد الله الصالحين، جزاك الله عنا يا سيدي يا رسولَ الله أفضل ما جزى نبيًّا عن أمته، وصلّى الله عليك وآلك وسلم كلما ذكرك ذاكر وغفل عن ذكرك غافل أفضلَ وأطيبَ وأكملَ ما صلّى على أحدٍ من الخلق أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنك عبده ورسوله وخِيرته مِن خلقه، وأشهد أنك قد بلَّغتَ الرسالةَ، وأدَّيتَ الأمانةَ، ونَصَحتَ الأمةَ، وجاهدتَ في الله حق جهاده، اللهم آت سيدنا محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وَعَدتَه، وآتِه نهايةَ ما ينبغي أن يسأله السائلون، اللهم صلِّ على سيدنا محمد عبدِك ونبيِّك ورسولِك النبيِّ الأميِّ وعلى آل سيدنا محمد وأزواجه وذريته كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وأزواجه وذريته كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد”. وهذه الصيغة مستحبة، وله الاقتصار على بعضها أو غير ذلك مما يحفظه. ثم يبلِّغ سلامَ مَن أوصاه بالسلام على النبي ﷺ؛ فيقول: “السلام عليك يا سيدي يا رسولَ اللهِ مِن فلان بن فلان”. ثم يتأخرَ قدر ذراع إلى جهة يمينه فيُسلِّم على أبي بكر رضي الله عنه، ثم يتأخرُ ذراعا آخر فيسلم على عُمر رضي الله عنه، ثم يرجعُ إلى موقفه الأوّل قُبالة وجهِ رسول الله ﷺ فيتوسلُ به في حقّ نفسه، ويتشفعُ به إلى ربه سبحانه وتعالى، ويدعو لنفسه ولوالديه وأصحابه وأحبابه ومَن أحسنَ إليه وسائر المسلمين، وأن يَجتهدَ في إكثار الدعاء، ويغتنم هذا الموقف الشريف ويحمد الله تعالى ويُسبِّحه ويكبِّره ويُهلِّله، ويُصلِّي على رسول الله ﷺ، ويُكثر من كل ذلك.
فضل المدينة المنورة وتشريفها بضم الجسد الشريف:
المدينة النبوية المنورة مَهد الإسلام؛ قد شرَّفها الله تعالى وفضَّلها، وجعلها من خير بقاع الأرض، ودعا لها النبي ﷺ ولأهلها بالبركة، وجعلها حرمًا آمنًا؛ فعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أنَّ النَّبِيِّ ﷺ قال: “إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا، وَحَرَّمْتُ المَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَدَعَوْتُ لَهَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا مِثْلَ مَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَكَّةَ”متفقٌ عليه.
بل وشَرُفَتْ بِضَمِّ بُقعة هي أفضل بقاع الأرض على الإطلاق بإجماع العلماء، وهي البقعة التي ضمت الجسد الشريف لسيدنا رسول الله ﷺ.
قال القاضي عياض في “الشفا بتعريف حقوق المصطفى” (2/ 91، ط. دار الكتب العلمية): [لا خلاف أنَّ موضع قبره ﷺ أفضل بقاع الأرض] اهـ.
وقال العلَّامة الصاوي في “حاشيته على الشرح الصغير” (1/ 354، ط. الحلبي) عن البقعة النبوية: [وأما هي: فهي أفضل من جميع بقاع الأرض والسماء حتى الكعبة والعرش والكرسي واللوح والقلم والبيت المعمور] اهـ.
حكم السفر لزيارة قبر النبي ﷺ والقبور عمومًا:
“شد الرحال” كناية عن السفر، وهو ليس عبادة في ذاته، ولا يقصد به العبادة، فلو قيل: إن السفر لزيارة القبور، والسفر لزيارة قبر النبي ﷺ لا يجوز، لزم أن يكون استحباب زيارة القبور واستحباب زيارة قبر النبي ﷺ لا يكون إلا لأهل البلاد التي يوجدون فيها، وحينئذ لا يجوز لأهل المدينة إلا الخروج من ديارهم بقصد زيارة قبر النبي ﷺ، وكل من احتاج إلى السفر من أجل ذلك كان مذنباً، وهذا ليس بعيد المنال فحسب، بل هو باطل، وهو محض أوهام كاذبة.
اتفق علماء الأصول على أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فإذا كان الحج واجباً فالسفر للحج واجب، وإذا كانت زيارة قبر النبي ﷺ وقبور الصالحين والأقارب والمسلمين عامة مستحبة فالسفر لزيارتهم مستحب، فكيف يكون الفعل مستحباً والوسيلة إليه محرمة؟
“ذهب العلماء إلى جواز شد الرحال لزيارة القبور للأدلة العامة، وخاصة قبور الأنبياء والصالحين، وأما حديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد مكة، والمسجد الأقصى) فهو خاص بالمساجد، فلا تشد الرحال إلا إلى تلك الثلاثة، ودليل هذا الحصر: جواز شد الرحال لطلب العلم والتجارة، وقد اتفق العلماء على هذا المعنى. وهذا شرح الشيخ سليمان بن منصور المعروف بالجمل: (ولا تشد الرحال) أي من أجل الصلاة فيها، فلا ينافي الشروع في غير ذلك… قال النووي: معناه لا فضل للشروع في غير هذه الثلاثة، وحكاه جمهور العلماء. قال العراقي: من أحسن ما يستفاد من الحديث أنه إنما ورد في أحكام المساجد، فلا يشد الرحال إلى غير هذه الثلاثة. وأما طلب غير المساجد بالشد للعلم، أو زيارة الصالحين، أو الرفاق، أو التجارة، أو التنزه، ونحو ذلك، فهذا لم يرد في الحديث”.
وقد صرّح بذلك ما رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة بإسناد جيد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: لا يشد المصلي رحاله إلى مسجد يصلي فيه إلا مسجد مكة ومسجد الأقصى ومسجدي هذا وفي رواية: لا يشد المصلي رحاله. وقال السبكي: ليس في الأرض موضع أفضل من غيره يشد إليه طلباً لذلك الفضل إلا هذه المدن الثلاثة. وقال: “إن المراد بالمفضل ما اعتبره الشرع، وصدرت عليه الأحكام الشرعية، وأما غير ذلك من الأماكن فلا يسافر إليها لذاتها، وإنما يسافر من أجل الزيارة أو طلب العلم أو نحو ذلك مما يستحب أو يباح، وقد اشتبه ذلك على بعض الناس، فزعم أن السفر لزيارة غير هذه الثلاثة، كسيدي أحمد البدوي وغيره، داخل في النهي، وهذا خطأ؛ لأن الاستثناء لا يكون إلا من نفس الصنف الذي استثنوا منه، ومعنى الحديث: أنه لا يسافر إلى مسجد من المساجد، ولا إلى مكان من الأماكن من أجل ذلك المكان في ذاته، إلا إلى الثلاثة المذكورة، فالسفر من أجل الزيارة أو طلب العلم ليس سفراً إلى مكان، وإنما هو سفر إلى صاحب المكان، فاعلم”.
وعلى هذا فالسفر لزيارة قبر النبي ﷺ مستحب؛ لأنه الوسيلة الوحيدة لأمر مندوب، وهو الزيارة، وكذلك السفر لزيارة قبور الصالحين والأقارب مستحب؛ لأنه الوسيلة، والسفر لأمر مباح جائز.